فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قُلْت: قَالَ ابْنُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي التَّسْهِيلِ لَا يُسْتَثْنَى بِأَدَاةٍ وَاحِدَةٍ- دُونَ عَطْفٍ- شَيْئَانِ.
وَيُوهِمُ ذَلِكَ بَدَلٌ وَمَعْمُولُ فِعْلٍ مُضْمَرٍ لَا بَدَلَانِ، خِلَافًا لِقَوْمٍ.
قَالَ أَبُو حَيَّانَ إنَّ مِنْ النَّحْوِيِّينَ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ، ذَهَبُوا إلَى إجَازَةِ مَا أَخَذَ أَحَدٌ إلَّا زَيْدٌ دِرْهَمًا.
وَمَا ضَرَبَ الْقَوْمُ إلَّا بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَالَ وَمَنَعَ الْأَخْفَشُ وَالْفَارِسِيُّ، وَاخْتَلَفَا فِي إصْلَاحِهَا، فَتَصْحِيحُهَا عِنْدَ الْأَخْفَشِ بِأَنْ يُقَدَّمَ عَلَى إلَّا الْمَرْفُوعُ الَّذِي بَعْدَهَا، فَتَقُولُ مَا أَخَذَ أَحَدٌ زَيْدٌ إلَّا دِرْهَمًا، وَمَا ضَرَبَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إلَّا بَعْضًا قَالَ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ السَّرَّاجِ وَابْنُ مَالِكٍ مِنْ أَنَّ حَرْفَ الِاسْتِثْنَاءِ إنَّمَا يُسْتَثْنَى بِهِ وَاحِدٌ، وَتَصْحِيحُهَا عِنْدَ الْفَارِسِيِّ بِأَنْ يَزِيدَ فِيهَا مَنْصُوبًا قَبْلَ إلَّا فَنَقُولُ مَا أَخَذَ أَحَدٌ شَيْئًا إلَّا زَيْدٌ دِرْهَمًا، وَمَا ضَرَبَ الْقَوْمُ أَحَدًا إلَّا بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَالَ أَبُو حَيَّانَ وَلَمْ نَدْرِ تَخْرِيجَهُ لِهَذَا التَّرْكِيبِ، هَلْ هُوَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى الْبَدَلِ فِيهِمَا، كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ السَّرَّاجِ فِي مَا أَعْطَيْت أَحَدًا دِرْهَمًا إلَّا عَمْرًا وَاقِفًا أَيُبَدَّلُ الْمَرْفُوعُ مِنْ الْمَرْفُوعِ وَالْمَنْصُوبُ مِنْ الْمَنْصُوبِ أَوْ هُوَ عَلَى أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا بَدَلًا وَالثَّانِي مَعْمُولَ عَامِلٍ مُضْمَرٍ، فَيَكُونُ إلَّا زَيْدٌ بَدَلًا مِنْ أَحَدٌ وإلَّا بَعْضًا بَدَلًا مِنْ الْقَوْمُ ودِرْهَمًا مَنْصُوبٌ بِ ضَرَبَ مُضْمَرَةٍ كَمَا اخْتَارَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ يَعْنِي ابْنَ مَالِكٍ خِلَافًا لِقَوْمٍ أَنْ يَعُودَ لِقَوْلِهِ لَا بَدَلَانِ فَكَوْنُ ذَلِكَ خِلَافًا فِي التَّخْرِيجِ لَا خِلَافًا فِي صِحَّةِ التَّرْكِيبِ.
وَالْخِلَافُ كَمَا ذَكَرْته مَوْجُودٌ فِي صِحَّةِ التَّرْكِيبِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذَا التَّرْكِيبُ صَحِيحٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَخْرِيجٍ لَا بِتَصْحِيحِ الْأَخْفَشِ وَلَا بِتَصْحِيحِ الْفَارِسِيِّ هَذَا كَلَامُ أَبِي حَيَّانَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَحَاصِلُهُ أَنَّ فِي صِحَّةِ هَذَا التَّرْكِيبِ خِلَافًا الْأَخْفَشُ وَالْفَارِسِيُّ يَمْنَعَانِهِ وَغَيْرُهُمَا يُجَوِّزُهُ وَالْمُجَوِّزُونَ لَهُ ابْنُ السَّرَّاجِ.
يَقُولُ هُمَا بَدَلَانِ؛ وَابْنُ مَالِكٍ يَقُولُ أَحَدُهُمَا بَدَلٌ وَالْآخَرُ مَعْمُولُ عَامِلٍ مُضْمَرٍ.
وَلَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُمَا مُسْتَثْنَيَانِ بِأَدَاةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا نَقَلَ أَبُو حَيَّانَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ وَقَوْلُهُ فِي صَدْرِ كَلَامِهِ إنَّ مِنْ النَّحْوِيِّينَ مَنْ أَجَازَهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّرْكِيبِ لَا عَلَى مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ؛ فَلَيْسَ فِي كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ مَا يَقْتَضِي الْخِلَافَ فِي الْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ إلَى جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ شَيْئَيْنِ بِأَدَاةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ عَطْفٍ وَاحْتَجَّ ابْنُ مَالِكٍ بِأَنَّهُ كَمَا لَا يَقَعُ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ مَعْطُوفَانِ كَذَلِكَ لَا يَقَعُ بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ مُسْتَثْنَيَانِ، وَتَعَجَّبَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ مِنْهُ.
وَذَلِكَ لِجَوَازِ قَوْلِنَا: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا، وَبَشَّرَ خَالِدًا.
وَضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا بِسَوْطٍ، وَبَشَّرَ عَمْرًا بِجَرِيدَةٍ وَقَالَ: إنَّ الْمُجَوِّزِينَ لِذَلِكَ عَلَّلُوا الْجَوَازَ بِشَبَهِ إلَّا بِحَرْفِ الْعَطْفِ وَابْنُ مَالِكٍ جَعَلَ ذَلِكَ عِلَّةً لِلْمَنْعِ وَفِي هَذَا التَّعَجُّبِ نَظَرٌ لِأَنَّ ابْنَ مَالِكٍ أَخَذَ الْمَسْأَلَةَ مُطْلَقَةً فِي هَذَا الْمِثَالِ وَفِي غَيْرِهِ.
وَقَالَ لَا يُسْتَثْنَى بِأَدَاةٍ وَاحِدَةٍ دُونَ عَطْفٍ شَيْئَانِ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ فِي قَوْلِنَا: قَامَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا، وَمَا قَامَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا.
وَمَا قَامَ إلَّا خَالِدٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ وَاحِدًا وَالْعَمَلُ وَاحِدًا.
فَفِي مِثْلِ هَذَا يُمْنَعُ التَّعَدُّدُ وَلَا يَكُونُ مُسْتَثْنَيَانِ بِأَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا مَعْطُوفَانِ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ.
وَالشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ مَثَّلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ بِحَرْفِ عَطْفٍ بِ قَامَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا وَعَمْرًا.
وَهُوَ صَحِيحٌ وَمِثْلُهُ دُونَ عَطْفٍ بِ أَعْطَيْت النَّاسَ إلَّا عَمْرًا الدَّنَانِيرَ.
وَكَأَنَّهُ أَرَادَ التَّمْثِيلَ بِمَا هُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ، وَإِلَّا فَالْمِثَالُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ هُوَ مِنْ جِهَةِ الْأَمْثِلَةِ.
وَلَا رِيبَةَ فِي امْتِنَاعِ قَوْلِك قَامَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا عَمْرًا، ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ قَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ هَذَا لَا يَجُوزُ، بَلْ تَقُولُ أَعْطَيْت النَّاسَ الدَّنَانِيرَ إلَّا عَمْرًا قَالَ فَإِنْ قُلْت مَا أَعْطَيْت أَحَدًا دِرْهَمًا إلَّا عَمْرًا دَانِقًا، وَأَرَدْت الِاسْتِثْنَاءَ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ أَرَدْت الْبَدَلَ جَازَ فَأَبْدَلْت عَمْرًا مِنْ أَحَدٍ وَدَانِقًا مِنْ دِرْهَمٍ كَأَنَّك قُلْت مَا أَعْطَيْت إلَّا عَمْرًا دَانِقًا.
قُلْت وَقَدْ رَأَيْت كَلَامَ ابْنِ السَّرَّاجِ فِي الْأُصُولِ كَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ وَهَذِهِ التَّقْرِيرُ الَّذِي قَرَّرَهُ فِي الْبَدَلِ، وَهُوَ مَا أَعْطَيْت إلَّا عَمْرًا دَانِقًا لَا يُؤَدِّي إلَى أَنَّ حَرْفَ الِاسْتِثْنَاءِ يُسْتَثْنَى بِهِ وَاحِدٌ؛ بَلْ هُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ التَّقْدِيرِيَّةِ لَيْسَ بِبَدَلٍ إنَّمَا نَصَبَهُمَا عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولَا أَعْطَيْت الْمُقَدَّرَةِ، لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وَسَاطَةِ إلَّا لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، فَلَوْ أَسْقَطْت إلَّا فَقُلْت مَا أَعْطَيْت عَمْرًا دِرْهَمًا جَازَ عَمَلُهَا فِي الِاسْمَيْنِ، بِخِلَافِ عَمَلِ الْعَامِلِ الْمُسْتَثْنَى الْوَاقِعِ بَعْدَ إلَّا فَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى وَسَاطَتِهَا.
قُلْت الْحَالَةُ التَّقْدِيرِيَّةُ إنَّمَا ذَكَرَهَا ابْنُ السَّرَّاجِ لَمَّا أَعْرَبَهُمَا بَدَلَيْنِ، فَأَسْقَطَ الْمُبْدَلَيْنِ، وَصَارَ كَأَنَّ التَّقْدِيرَ مَا ذَكَرَهُ وَابْنُ السَّرَّاجِ قَائِلٌ بِأَنَّ حَرْفَ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يُسْتَثْنَى بِهِ وَاحِدٌ، حَتَّى أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي مَا قَامَ أَحَدٌ إلَّا زَيْدًا إلَّا عَمْرًا.
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ رَفْعُهُمَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ فَاعِلَانِ مُخْتَلِفَانِ يَرْتَفِعَانِ بِهِ بِغَيْرِ حَرْفِ عَطْفٍ، فلابد أَنْ يَنْتَصِبَ أَحَدُهُمَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّيْخَ أَرَادَ أَنْ يَشْرَحَ كَلَامَ ابْنِ السَّرَّاجِ لَا أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ ذَهَبَ الزَّجَّاجُ إلَى أَنَّ الْبَدَلَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَدَلُ اسْمَيْنِ مِنْ اسْمَيْنِ.
لَوْ قُلْت ضَرَبَ زَيْدٌ الْمَرْأَةَ أَخُوك هِنْدًا لَمْ يَجُزْ قَالَ وَالسَّمَاعُ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِ الزَّجَّاجِ وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَدَلُ اسْمَيْنِ مِنْ اسْمَيْنِ.
قَالَ الشَّاعِرُ فَلَمَّا قَرَعْنَا النَّبْعَ بِالنَّبْعِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ أَبَتْ عِيدَانُهُ أَنْ تُكْسَرَا وَرَدَّ ابْنُ مَالِكٍ عَلَى ابْنِ السَّرَّاجِ بِأَنَّ الْبَدَلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ لابد مِنْ اقْتِرَانِهِ بِإِلَّا يَعْنِي وَهُوَ قَدَّرَ مَا أَخَذَ أَحَدٌ زَيْدٌ بِغَيْرِ إلَّا وَقَدْ يُجَابُ عَنْ ابْنِ السَّرَّاجِ بِأَنَّ الَّذِي لابد مِنْ اقْتِرَانِهِ بِإِلَّا هُوَ الْبَدَلُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ أَمَّا هَذَا فَلَمْ يَرِدُ بِهِ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ بَلْ هُوَ بَدَلٌ مَنْفِيٌّ قُدِّمَتْ إلَّا عَلَيْهِ لَفْظًا وَهِيَ فِي الْحُكْمِ مُتَأَخِّرَةٌ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ بِإِلَّا وَيَلْزَمُهُ الْفَصْلُ بَيْنَ إلَّا وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ بِالْبَدَلِ مِمَّا قَبْلَهَا، وَالشَّيْخُ تَعَقَّبَ ابْنَ مَالِكٍ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ لَمْ يَرُدَّهُ وَلَمْ يَتَخَلَّصْ لَنَا مِنْ كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ النُّحَاةِ مَا يَقْتَضِي حَصْرَيْنِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي شَرْحِ الْمَنْظُومَةِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ إذَا ثَبَتَ الْمَفْعُولُ بَعْدَ نَفْيِ فَلَازِمٌ تَقْدِيمُهُ بِوَعْيِ قَالَ كَقَوْلِك مَا ضَرَبَ زَيْدٌ إلَّا عَمْرًا فَهَذَا مِمَّا يَجِبُ فِيهِ تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ حَصْرُ مَضْرُوبِيَّةِ زَيْدٍ فِي عَمْرٍو خَاصَّةً؛ أَيْ لَا مَضْرُوبَ لِزَيْدٍ سِوَى عَمْرٍو فَلَوْ قُدِّرَ لَهُ مَضْرُوبٌ آخَرُ لَمْ يَسْتَقِمْ بِخِلَافِ الْعَكْسِ فَلَوْ قُدِّمَ الْمَفْعُولُ عَلَى الْفَاعِلِ انْعَكَسَ الْمَعْنَى، قَالَ فَإِنْ قِيلَ مَا الْمَانِعُ أَنْ يُقَالَ فِيهِمَا مَا ضَرَبَ إلَّا عَمْرٌو زَيْدًا؛ وَيَكُونُ فِيهِ حِينَئِذٍ تَقَدُّمُ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفَاعِلِ قُلْت لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّهُ لَوْ جَوَّزَ تَعَدُّدَ الْمُسْتَثْنَى الْمُفَرَّغِ بَعْدَ إلَّا فِي قَبِيلَيْنِ، كَقَوْلِك مَا ضَرَبَ إلَّا زَيْدٌ عَمْرًا أَيْ مَا ضَرَبَ أَحَدٌ أَحَدًا إلَّا زَيْدٌ عَمْرًا كَانَ الْحَصْرُ فِيهِمَا مَعًا وَالْغَرَضُ الْحَصْرُ فِي أَحَدِهِمَا، فَيَرْجِعُ الْكَلَامُ بِذَلِكَ إلَى مَعْنًى آخَرَ غَيْرِ مَقْصُودٍ وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مُمْتَنِعَةً لِبَقَائِهَا بِلَا فَاعِلٍ وَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ حِينَئِذٍ ضَرَبَ زَيْدٌ فَيَبْقَى ضَرَبَ الْأَوَّلُ بِغَيْرِ فَاعِلٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ يَكُونُ عَمْرٌو مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ غَيْرِ ضَرَبَ الْأَوَّلِ، فَتَصِيرُ جُمْلَتَيْنِ، فَلَا يَكُونُ فِيهِمَا تَقْدِيمُ فَاعِلٍ عَلَى مَفْعُولٍ.
هَذَا كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِنَقْلِ خِلَافٍ وَرَأَيْت كَلَامَ شَخْصٍ مِنْ الْعَجَمِ يُقَالُ لَهُ الْحَدِيثِي شَرَحَ كَلَامَهُ وَنَقَلَ كَلَامَهُ هَذَا وَقَالَ لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ إنَّمَا يَتِمُّ بِبَيَانِ أَنَّ زَيْدًا فِي قَوْلِنَا مَا ضَرَبَ إلَّا عَمْرًا زَيْدٌ، وعَمْرًا فِي قَوْلِنَا مَا ضَرَبَ إلَّا زَيْدٌ عَمْرًا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَا مَفْعُولَيْنِ لِضَرَبَ الْمَلْفُوظِ؛ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْجَوَابِ فَيَكُونُ هَذَا الْجَوَابُ غَيْرَ تَامٍّ.
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي أَمَالِي الْكَافِيَةِ لابد فِي الْمُسْتَثْنَى الْمُفَرَّغِ مِنْ تَقْدِيرٍ عَامٍّ، فَلَوْ اسْتَعْمَلُوا بَعْدَ إلَّا شَيْئَيْنِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُمَا عَامَّانِ فَإِذَا قُلْت مَا ضَرَبَ إلَّا زَيْدٌ عَمْرًا فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ لَا عَامَّ لَهُمَا أَوْ لَهُمَا عَامَّانِ أَوْ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ.
الْأَوَّلُ يُخَالِفُ الْبَابَ وَالثَّانِي يُؤَدِّي إلَى أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ الْقِيَامِ مِنْ غَيْرِ ثَبَتٍ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فِي الِاثْنَيْنِ جَازَ فِيهِمَا فَوْقَهُمَا، وَذَلِكَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ وَالثَّالِثُ يُؤَدِّي إلَى اللَّبْسِ فِيمَا قَصَدَ فَلِذَلِكَ حَكَمُوا بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُفَرَّغَ إنَّمَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ وَيئول مَا جَاءَ عَلَى مَا يُوهِمُ غَيْرَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ فَإِذَا قُلْت مَا ضَرَبَ إلَّا زَيْدٌ عَمْرًا فِيمَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ لَا عَلَى أَنَّهُ لِضَرَبَ الْأَوَّلِ وَلَكِنْ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ عَمَّنْ ضَرَبَ فَقَالَ عَمْرًا أَيْ ضَرَبَ عَمْرًا قَالَ الْحَدِيثِيُّ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَخْتَارَ الثَّالِثَ وَيَقُولُ الْعَامُّ لَا يُقَدَّرُ إلَّا لِلَّذِي يَلِي إلَّا مِنْهُمَا، فَإِنَّ الْعَامَّ إنَّمَا يُقَدَّرُ لِلْمُسْتَثْنَى الْمُفَرَّغِ لَا لِغَيْرِهِ وَالْمُسْتَثْنَى مُفَرَّغٌ هُوَ الَّذِي يَلِي إلَّا.
فَلَا يَحْصُلُ اللَّبْسُ أَصْلًا فَثَبَتَ أَنَّ جَوَابَ شَرْحِ الْمَنْظُومَةِ لَا يَتِمُّ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْأَمَالِي أَيْضًا نَعَمْ بِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي حُكْمِ جُمْلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ لِأَنَّ مَعْنَى جَاءَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا مَا مِنْهُمْ زَيْدٌ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَعْمَلَ مَا قَبْلَ إلَّا فِيمَا بَعْدَهَا لِمَا لَاحَ أَنَّ إلَّا بِمَثَابَةِ مَا وَإِلَّا فِي صُوَرٍ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ، وَهِيَ إعْمَالُ مَا قَبْلَ إلَّا فِي الْمُسْتَثْنَى الْمَنْفِيِّ عَلَى أَصْلِهِ، وَفِيمَا بَعْدَ إلَّا الْمُفَرَّغَةِ وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى الْمُفَرَّغُ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا، نَحْوُ: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ إلَّا زَيْدٌ عَلَى الْبَدَلِ وَفِيمَا بَعْدَ إلَّا الْمُفَرَّغَةِ الْمُسْتَثْنَى الْمُفَرَّغُ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا نَحْوُ مَا جَاءَنِي أَحَدٌ إلَّا زَيْدٌ عَلَى الْبَدَلِ، وَفِيمَا بَعْدَ الْمُقَدَّمَةِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صِفَتِهِ، لِأَنَّهُ يَكْثُرُ الْإِضْمَارُ إنْ قُدِّرَ الْعَامِلُ بَعْدَ إلَّا فِي الصُّورَةِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهَا نَحْوُ مَا قَامُوا إلَّا زَيْدًا، وَمَا قَامَ إلَّا زَيْدٌ، وَمَا جَاءَ إلَّا زَيْدًا الْقَوْمُ، وَمَا مَرَرْت بِأَحَدٍ إلَّا زَيْدًا خَيْرٍ مِنْ عَمْرٍو، وَأَنْ لَا يَجُوزُ مَا ضَرَبَ إلَّا زَيْدٌ عَمْرًا، وَلَا إلَّا عَمْرًا زَيْدٌ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَا شَيْئَيْنِ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مَا يَلِي إلَّا دُونَ الْأَخِيرِ يَكُونُ مَا قَبْلَهُ عَامِلًا فِيمَا بَعْدَهُ فِي غَيْرِ الصُّوَرِ الْأَرْبَعِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَمَا وَرَدَ قُدِّرَ عَامِلُ الثَّانِي فَتَقْدِيرُ: مَا ضَرَبَ إلَّا عَمْرًا زَيْدٌ ضَرَبَ زَيْدٌ.
وَذَهَبَ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ إلَى جَوَازِ التَّقْدِيمِ حَيْثُ قَالَ فِي فَصْلِ الْقَصْرِ: وَلَك أَنْ تَقُولَ فِي الْأَوَّلِ: مَا ضَرَبَ إلَّا عَمْرًا زَيْدٌ، وَفِي الثَّانِي مَا ضَرَبَ إلَّا زَيْدٌ عَمْرًا، فَتُقَدِّمُ وَتُؤَخِّرُ، إلَّا أَنَّ هَذَا التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ لَمَّا اسْتَلْزَمَ قَصْرَ الصِّفَةِ قَبْلَ تَمَامِهَا عَلَى الْمَوْصُوفِ قَلَّ وُرُودُهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ الْمَقْصُورَةَ عَلَى عَمْرٍو فِي قَوْلِنَا مَا ضَرَبَ زَيْدٌ إلَّا عَمْرًا؛ هِيَ ضَرْبُ زَيْدٍ، لَا الضَّرْبُ مُطْلَقًا.
وَالصِّفَةُ الْمَقْصُورَةُ عَلَى زَيْدٍ فِي قَوْلِنَا مَا ضَرَبَ عَمْرًا إلَّا زَيْدٌ هِيَ الضَّرْبُ لِعَمْرٍو.
وَقَالَ الْحَدِيثِيُّ عَلَى صَاحِبِ الْمِفْتَاحِ إنَّ حُكْمَهُ بِجَوَازِ التَّقْدِيمِ إنْ أُثْبِتَ بِوُرُودِهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ بِأَنْ مَا وَرَدَ فِي الِاسْتِعْمَالِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي فِيهِ مَعْمُولًا لِعَامِلٍ مُقَدَّرٍ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ مَالِكٍ وَأُصُولُ الْأَبْوَابِ لَا تَثْبُتُ بِالْمُحْتَمَلَاتِ.
وَإِنْ أَتَيْت بِغَيْرِهِ فلابد مِنْ بَيَانِهِ لِنَنْظُرَ فِيهِ.
قَالَ فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَجُوزُ التَّقْدِيمُ فِي إنَّمَا قُلْت: لَا يَجُوزُ قَطْعًا فِي إنَّمَا وَإِنْ جَوَّزَ فِي مَا وَإِلَّا لِأَنَّ مَا وَإِلَّا أَصْلٌ فِي الْقَصْرِ، وَلِأَنَّ التَّقْدِيمَ فِي مَا وَإِلَّا غَيْرُ مُلْتَبِسٍ، كَذَا قَالَ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ وَقَالَ الْحَدِيثِيُّ: امْتِنَاعُ التَّقْدِيمِ فِي إنَّمَا يَقْتَضِي امْتِنَاعَهُ فِي مَا وَإِلَّا لِيَجْرِيَ بَابُ الْحَصْرِ عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ.
قال الشيخ الْإِمَامُ: وَقَدْ تَأَمَّلْت مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا ضَرَبَ أَحَدٌ أَحَدًا إلَّا زَيْدٌ عَمْرًا.
وَقَوْلُهُ: إنَّ الْحَصْرَ فِيهِمَا مَعًا وَالسَّابِقُ إلَى الْفَهْمِ مِنْهُ أَنَّهُ لَا ضَارِبَ إلَّا زَيْدٌ وَلَا مَضْرُوبَ إلَّا عَمْرٌو فَلَمْ أَجِدْهُ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ لَا ضَارِبَ إلَّا زَيْدٌ لِأَحَدٍ إلَّا عَمْرًا، فَانْتَفَتْ ضَارِبِيَّةُ غَيْرِ زَيْدٍ لِغَيْرِ عَمْرٍو، وَانْتَفَتْ مَضْرُوبِيَّةُ عَمْرٍو مِنْ غَيْرِ زَيْدٍ، وَقَدْ يَكُونُ زَيْدٌ ضَرَبَ عَمْرًا وَغَيْرَهُ، وَقَدْ يَكُونُ عَمْرٌو ضَرَبَهُ زَيْدٌ وَغَيْرُهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَعْنَى نَفْيَ الضَّارِبِيَّةِ مُطْلَقًا عَنْ غَيْرِ زَيْدٍ وَنَفْيَ الْمَضْرُوبِيَّةِ مُطْلَقًا عَنْ غَيْرِ عَمْرٍو وَإِذَا قُلْنَا: مَا وَقَعَ ضَرْبٌ إلَّا مِنْ زَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو فَهَذَانِ حَصْرَانِ مُطْلَقًا بِلَا إشْكَالٍ وَسَبَبُهُ أَنَّ النَّفْيَ وَرَدَ عَلَى الْمَصْدَرِ وَاسْتُثْنِيَ مِنْهُ شَيْءٌ خَاصٌّ.
وَهُوَ ضَرْبُ زَيْدٍ لِعَمْرٍو فَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى النَّفْيِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَنْتَفِي فِيهَا الِاخْتِلَافُ {إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} وَالْفَرْقُ بَيْنَ نَفْيِ الْمَصْدَرِ وَنَفْيِ الْفِعْلِ أَنَّ الْفِعْلَ مُسْنَدٌ إلَى فَاعِلٍ فَلَا يَنْتَفِي عَنْ الْمَفْعُولِ إلَّا ذَلِكَ الْمُقَيَّدُ، وَالْمَصْدَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ فَيَنْتَفِي مُطْلَقًا إلَّا الصُّورَةُ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنْهُ بِقُيُودِهَا.
وَقَدْ جَاءَنِي كِتَابُكَ أَكْرَمَكَ اللَّهُ تَذْكُرُ فِيهِ إنَّك وَقَفْت عَلَى مَا قَرَّرْته فِي إعْرَابِ قَوْله تعالى: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ} وَأَنَّ النُّحَاةَ اخْتَلَفُوا فِي أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا وُقُوعُ الْحَالِ بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى، نَحْوَ قَوْلِك أَكْرِمْ النَّاسَ إلَّا زَيْدًا قَائِمِينَ: وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي اعْتَرَضَ بِهَا الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ- سَاقِطٌ لِأَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ وَارِدًا عَلَيْهَا وَجَعَلَهَا حَالًا مُسْتَثْنَاةً فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مُسْتَثْنَاةٌ فَلَمْ يَقَعْ بَعْدَ إلَّا حِينَئِذٍ إلَّا الْمُسْتَثْنَى فَإِنَّهُ مُفَرَّغٌ لِلْحَالِ، وَالشَّيْخُ فَهِمَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ غَيْرُ مُنْسَحِبٍ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ {غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ} لَيْسَ مُسْتَثْنًى وَلَا صِفَةً لِلْمُسْتَثْنَى بِهِ وَلَا مُسْتَثْنًى مِنْهُ وَقَدْ أَصَبْت فِيمَا قُلْت لَكِنْ لِلشَّيْخِ بَعْضُ عُذْرٍ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ لَمَّا قَالَ إنَّهُ حَالٌ مِنْ لَا تَدْخُلُوا، وَلَمْ يَتَأَمَّلْ الشَّيْخُ بَقِيَّةَ كَلَامِهِ.
فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ إنَّ مُرَادَهُ لَا تَدْخُلُوا غَيْرَ نَاظِرِينَ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ دُخُولَهُمْ غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ مَشْرُوطًا بِالْإِذْنِ.
وَأَمَّا نَاظِرِينَ فَمَمْنُوعٌ مُطْلَقًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، ثُمَّ قَدَّمَ الْمُسْتَثْنَى وَأَخَّرَ الْحَالَ، فَلَوْ أَرَادَهُ كَانَ إيرَادُ الشَّيْخِ مُتَّجِهًا مِنْ جِهَةِ النَّحْوِ، ثُمَّ قُلْت أَكْرَمَك اللَّهُ الثَّانِي وَكَأَنَّك أَرَدْت الثَّانِيَ مِنْ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِيهِمَا؛ وَذَكَرْت اسْتِثْنَاءَ شَيْئَيْنِ.
وَقَدْ قَدَّمْت أَنَّنِي لَمْ أَظْفَرْ بِصَرِيحِ نَقْلٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا لَا يَكُونُ فَاعِلَانِ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ وَلَا مَفْعُولَانِ بِهِمَا لِفِعْلٍ وَاحِدٍ لَا يَتَعَدَّى إلَى أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدٍ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُسْتَثْنَيَانِ مِنْ مُسْتَثْنًى وَاحِدٍ بِأَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا مِنْ مُسْتَثْنًى مِنْهُمَا بِأَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّهَا كَقَوْلِك اسْتَثْنَى الْمُتَعَدِّي إلَى وَاحِدٍ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْفِعْلِ لَا يَجُوزُ فِي الْحَرْفِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا فِيهِ فِي غَيْرِ بَابِ أَعْطَى وَشَبَهِهِ.
وَقَوْلُك إنَّهُ لَا يَكَادُ يَظْهَرُ لَهَا مَانِعٌ صِنَاعِيٌّ وَهِيَ جَدِيرَةٌ بِالْمَنْعِ، وَمَا الْمَانِعُ مِنْ قَوْلِ الشَّخْصِ مَا أَعْطَيْت أَحَدًا شَيْئًا إلَّا عَمْرًا دَانِقًا، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي مَعَ ذَلِكَ فِي مِثْلِ إلَّا عَمْرًا زَيْدًا إذَا كَانَ الْعَامِلُ يَطْلُبُهُمَا بِعَمَلٍ وَاحِدٍ أَمَّا إذَا طَلَبَهُمَا بِجِهَتَيْنِ فَلَيْسَ يُمْتَنَعُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ مَالِكٍ حُجَّةً إلَّا الشَّبَهَ بِالْعَطْفِ وَنَحْنُ نَقُولُ فِي الْعَطْفِ بِالْجَوَازِ فِي مِثْلِ مَا ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا وَبَكْرٌ خَالِدًا قَطْعًا فَنَظِيرُهُ مَا أَعْطَيْت أَحَدًا شَيْئًا إلَّا زَيْدًا دَانِقًا، وَصَرَّحَ ابْنُ مَالِكٍ بِمَنْعِهِ، وَقَدْ فَهِمْت مَا قُلْته.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَجَوَابٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَوْلُك إنَّ الْآيَةَ نَظِيرُهُ مَمْنُوعٌ بَلْ هِيَ جَائِزَةٌ وَهُوَ مَمْنُوعٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.تفسير الآيات (54- 55):

قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان بعض الدال على الكلام- كما مر- أصرح من بعض، فكان الإنسان قد يضمر أن يفعل ما يؤذي إذا تمكن، وقد يؤذي بفعل يفعله، ويدعي أنه قصد شيئًا آخر مما لا يؤدي، قال تعالى حاملًا لهم على التفطن والتنبه في الأقوال وغيرها والمقاصد الحسنة ظاهرًا وباطنًا، على طريق الاستئناف في جواب من ربما انتهى بظاهره، وهو عازم على أن يفعل الأذى عند التمكن: {إن تبدوا} أي بألسنتكم أو غيرها {شيئًا} أي من ذلك وغيره {أو تخفوه} أي في صدروكم.